النزعة الفردية في الخليج وتأثيرها على الولاء للعائلة والقبيلة والحكومة

النزعة الفردية في الخليج وتأثيرها على الولاء للعائلة والقبيلة والحكومة

مقدمة

عبدالعزيز الغامدي

أنتجت التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، تأثيرات كبيرة على المجتمعات العربية عموما والمجتمعات الخليجية على وجه الخصوص. من بين هذه التغييرات، الميل الكبير نحو النزعة الفردية في منطقة عُرفت دائما بغلبة التكتلات الاجتماعية سواءا كانت تلك التكتلات قبلية أو عائلية أو إثنية أو عرقية وحتى طائفية. لفترة طويلة من الزمن كرس العرب الوقت والمال – وأحيانًا الدم – للحفاظ على العلاقات مع الأسرة والقبيلة، ويعود ذلك لأسباب كثيرة منها المخاطر المتعددة في البيئة الصحراوية، خاصة عندما توسع النظام القبلي ليكون نظام دولة مدعوما بموارد البترول. لكن التغييرات الاقتصادية التي أنتجتها العولمة، والمظاهر التي أفرزتها مثل العيش بعيدًا عن العائلات والعمل لساعات أطول، وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، مصادر المعلومات البديلة والترفيه، كلها أعطت الفرد دافعا وإمكانية أكبر لتكريس الوقت لنفسه بعيدا عن العائلة أو القبيلة والأهم، دفعهم للاعتماد أكثر على الحكومة، لأنها أصبحت تمثل المورد الاقتصادي للفرد، وبذلك تتيح إمكانية أكبر للاعتماد على النفس. 

في هذا البحث، سنتناول حالتين “السعودية والإمارات”، لتحول الولاء الفردي في منطقة الخليج نحو الحكومة، ومدى هذا التحول وأسبابه ونتائجه في الملفات الداخلية والخارجية.

المحتوى

أولا: الإمارات 

يشكل الإماراتيون 11.5% فقط في المائة من السكان في الإمارات العربية المتحدة، الغالبية العظمى منها عمال مهاجرون. ومع مثل هذا العدد الكبير من السكان الأجانب ، أطلقت الحكومة مؤخرا حملة ضخمة لتعزيز الهوية الثقافية الوطنية بين سكان الإمارات، تستهدف  التزامات المواطنين وتوقعاتهم وولاءاتهم من نواحٍ مختلفة، على الرغم من أن العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم عبروا عن ذلك عدم اليقين بشأن كيفية رد فعلهم على هذه الحملة، لكن تهدف معظم رسائل الدولة إلى الأجيال الشابة من الإماراتيين إلى الابتعاد عن ثقافة المواطنين غير المنتجين، تحاول الحكومة الآن بناءهم حتى يتمكنوا من المساهمة فيها والاستعداد لعالم معولم. ومع ذلك ، يعتقد أكاديميون إماراتيون إلى أن الرسائل الحكومية يمكن أن تؤدي لنتائج عكسية. الإمارات العربية المتحدة اتحاد كونفدرالي من سبعة إمارات، توحدت عام 1971 ولكل منها حاكمها الخاص و حكومتها الخاصة. على الرغم من حملة الحكومة لتعزيز هوية وطنية مشتركة، لا تزال الروابط العائلية والقبلية قوية فيها، كما أن هناك تفاوتات كبيرة في الثروة بين الإمارات المختلفة.

الإمارات الأخرى بشكل عام أكثر محافظة من أبو ظبي ودبي. على الرغم من أن كل إمارة لا تزال تتمتع بدرجة من الاستقلال، لكنها اقتربت جميعها من الحكومة المركزية في أبو ظبي في الآونة الأخيرة. سهلت إمكانات النقل الجديدة من تحرك المواطنين في أرجاء البلاد، بعدما كانت الرحلة طويلة محفوفة بالمخاطر في السابق. كما شكل ظهور المولات التجارية الكبيرة، مساح أخرى للتفاعل الاجتماعي، ومع ذلك، لا يزال موقع الإمارة يشكل عاملا مهما للحصول على عمل، خاصة في حال البحث عن عمل خارج الإمارة الأصلية، كما لا تزال كثير من العائلات الإماراتية، تمنع بناتها من العمل في إمارة أخرى. 

في دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، خلص المركز إلى حصول تغييرات سريعة على المجتمع خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة في أعقاب الربيع العربي. وتكمن أبرز هذه الملامح في الآتي: 

  1. قبل الربيع العربي: دفع النمو الاقتصادي بسبب ارتفاع أسعار النفط في السبعينات، لاستقدام أعداد كبيرة من العمالة المنزلية، وهو ما أعطى المرأة الإماراتية إمكانية الحصول على عمل في الخارج، أو التحرر من الأعمال المنزلية التي تقيد نظيراتها في الدول العربية الأخرى على أقل تقدير. 
  2. وجود نسبة منخفضة من السكان، وارتفاع الواردات النفطية، منح حياة مرفهة للشعب وهو سبب رئيس لانعدام السخط العام على الحكومة.
  3. مع اندلاع ثورات الربيع العربي، اندفعت الحكومة بشكل أكبر نحو الداخل، بدأ الأمر بالضغط على عائلات من تعتبرهم الحكومة متطرفين، وطالبتهم بالتبرؤ منهم بشكل علني، كما فعلت أمرا مماثلا خلال الأزمة القطرية، حيث أصبح الاصطفاف مع السياسات الحكومية معيارا وطنيا يغلب على المصلحة الشخصية أو العائلية (خاصة بوجود العديد من الإماراتيين المتزوجين من نساء قطريات والعكس).
  1. التجنيد الإلزامي: في العام 2014، أعلنت الإمارات فرض التجنيد الإلزامي على شبابها البالغين، وهي خطوة مماثلة لكثير من الدول الخليجية مثل قطر والكويت.  يعكس هذا الاعتماد على التجنيد الإلزامي الجهود التي تبذلها الأنظمة الملكية في الخليج للتعامل مع التغييرات الإقليمية المترابطة. على وجه الخصوص، أدّى الهبوط في أسعار النفط العالمية إلى تراجع قدرة تلك الأنظمة على تأمين الرعاية الاجتماعية والمنافع للرعايا الأجانب، بما في ذلك أولئك الذين خدموا في جيوشها. كما أن عدم الاستقرار الإقليمي والحضور المتنامي للتيارات المتشددة ولّدا رغبة في توطيد الرابط الوطني. على الرغم من المخاطر السياسية المحتملة التي ينطوي عليها التجنيد الإلزامي، إلا أنه تكتيك فاعل لتعزيز الولاء والحس الوطني، وفق ما ظهر في مراحل التوريث الملكي. 

 صيغت الخدمة العسكرية في الإمارات في شكل برنامج تعليمي وطني يُكمّل مقرر التدريب العسكري الأساسي والمتخصص. حتى إن الإمارات أقدمت، في آذار/مارس 2016، على افتتاح مدرسة الخدمة الوطنية لحرس الرئاسة من أجل تأمين مزيد من التدريب التطبيقي، وتسعى إلى أن يستقر عدد المسجّلين في المدرسة عند 5000 مجنّد لكل صف في السنة. في العام 2016، أطلقت الإمارات نسخة مختصرة إضافية من الخدمة الوطنية للمتطوعين الذكور في الفئة العمرية 30-40 عاماً والذين يرغبون في الالتحاق بالخدمة العسكرية، فضلاً عن “خدمة بديلة” قائمة على العمل الإداري أو التقني ومخصّصة للمتطوعين الذين لا يستوفون الشروط الأساسية.

يمزج التجنيد الإلزامي، مقروناً بالسياسات الخارجية ذات الدوافع العسكرية، بين التعبئة الوطنية وإظهار القوة للخارج. يَظهر هذا الرابط بوضوح في الحداد الجماعي على الجنود  الإماراتيين الذين لقوا مصرعهم في الحرب في اليمن. فبالإضافة إلى جنود حرس الرئاسة، أُرسِل بعض المجنّدين الإلزاميين الإماراتيين إلى اليمن، على الرغم من غياب الخبرة القتالية لديهم، مع العلم بأن الإمارات توقّفت عن إرسال هؤلاء المجنّدين بعد الهجوم الذي شنّه الحوثيون في مأرب وأسفر عن مقتل 45 إماراتياً في الرابع من أيلول/سبتمبر 2015. تُكرّم وسائل الإعلام المحلية والحكّام هؤلاء الجنود الذين يعتبرونهم شهداء الأمة، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بادر مكتب شؤون أسر الشهداء إلى إنشاء واحة الكرامة في أبو ظبي، وهي عبارة عن نصب تذكاري دائم تكريماً للجنود الإماراتيين الذين قضوا نحبهم في خدمة الأمة. كذلك استُخدم التجنيد الإلزامي لدعم السياسات المتعلقة بالشؤون الوطنية. فعلى سبيل المثال، تسعى الإمارات إلى خفض أعداد الرعايا الأجانب في الجيش، والذين كانوا يشكّلون نحو أربعين في المئة من القوات المسلحة في التسعينيات. وقد أعطت الإمارات العربية المتحدة، منذ ذلك الوقت، الأولوية للتجنيد من الإمارات الشمالية مثل رأس الخيمة، التي تضم 61 في المئة من السكان، وذلك بهدف تعزيز روابطها مع أبو ظبي وزيادة الدعم الذي تقدّمه قبائل الإمارات الشمالية للجيش – وهي علاقة من شأن التجنيد الإلزامي أن يساهم في توطيدها. في خطوة مهمة، أعلنت الإمارات، في آب/أغسطس 2015، أن الأشخاص المولودين من أمهات إماراتيات وآباء أجانب (والممنوعين سابقا من الحصول على الجنسية) أصبحوا مؤهّلين لنيل الجنسية في حال انضموا طوعاً إلى الخدمة الوطنية.

ثانيا: السعودية 

تعيش السعودية فترة من التغييرات السريعة بعد تولي الملك سلمان الحكم عام 2015 وإعلان ابنه عن رؤية 2030 التي حمل في طياتها جانبا مشروع تغيير اجتماعي من شأنه إضعاف سلطة القبيل وتعزيز الولاء للدولة. 

أدى تغيير الأوضاع الاقتصادية في السعودية خلال العقود الأخيرة إلى جملة من التغييرات الاجتماعية المتعلقة بعلاقة الفرد بالقبيلة والعائلة والدولة. فارتفاع أسعار النفط  مكّن الدولة من الإنفاق بشكل كبير وأدى ذلك بالضرورة بأن يعتمد المواطنون على الدولة بصورة أكبر من السابق. لقد نتج عن إنفاق الدولة على الرفاهية والخدمات إلى إضعاف مراكز القوى الأخرى مثل العائلة والقبيلة. والتي تأثرت أيضا مع التوسع الحضري السريع وسياسات الإسكان الجديدة. بينما في الماضي ، كانت القبائل والعائلات تعيش في مجمعات كبيرة ويتفاعلون بشكل منتظم ، الآن، ينتشر أفراد الأسرة شكل متباعد ويرون بعضهم بعضا بشكل يختلف عن السابق.  زادت الدولة الرفاهية بينما كانت تعمل أيضًا على ضم مراكز قوة بديلة، مما أدى إلى تقليص اعتماد السعوديين عليها ومسؤوليتهم عنها. يختلف المحللون حول التأثير المحتمل لتقلص مراكز القوى هذه، فيمكن أن يؤدي إلى انكفاء المواطنين على أنفسهم، أو يمكن أن يؤدي إلى تجدد شبكات القرابة التقليدية. رغم ذلك، أدت سياسات القمع التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان لتوجيه ضربة نحو توجهات الحكومة في كسب ولاء المواطنين، كما يرى الباحث “جون ألترمان”

فقرار الحكومة بتهجير القبيلة الحويطات مثلا، لم يترك مجالا لأي من أفراد القبيلة لتوجيه ولائهم للدولة في ظل ما يمكن تصنيفه “تهجير قسري” بحق مواطنين لديهم حرية العيش على أرضهم كما أوضحت المديرة التنفيذية السابقة لمنظمة هيومن رايتس ووتش في الشرق الأوسط سارة لاي.

القبيلة بصورة عامة، لا تزال تلعب دورا كبيرا في الولاء داخل السعودية، فالمملكة نشأت من تحالف قبلي قادته قبيلة آل سعود، ولا تزال السعودية تستخدم الورقة القبلية حتى في سياستها الإقليمية، ولعل أبرز مثال على ذلك عشيرة شمر السعودية، التي تعتبر من أقوى قبائل شبه الجزيرة العربية، وقد لعبت القبيلة دورا كبيرا في قتال القاعدة خلال سنوات 2006-2010 في العراق، خاصة مع تشكيل تنظيمات قبلية مقاتلة عُرفت بالصحوات، أبرزها تنظيم الصحوة الذي تشكل في محافظة الأنبار العراقية ذات الطابع القبلي. العلاقة نفسها تكررت في اليمن، أنفقت السعودية ملايين الدولارات لشراء ولاء القبائل اليمنية، وتم ذلك بالطبع من بالاستفادة من الطابع القبلي في المملكة، على عكس الحكومات الأخرى، الدولة في السعودية لا تريد إنهاء دور القبيلة، بل إنها تعززها في أحيان كثيرة. 

اتخذت الحكومة السعودية مسار مختلف. بدلا من قطع العلاقات بين الأفراد والجماعات دون الوطنية ، سعت إلى تطوير العلاقات بين الدولة والقبائل. عالم الأنثروبولوجيا نداف سامين الذي ألف كتابًا حول علم الأنساب في المملكة العربية السعودية ، لاحظ أن الدولة السعودية “تنفست حياة جديدة في الهوية القبلية، وقدمت القبيلة على أنها تعبير عن الجمعيات الأهلية والمجتمعية داخل البلد”. وقد رعت الدولة السعودية الهويات القبلية، وعملت بشكل واضح وصريح مع زعماء القبائل، ودفعت لهم الكثير من الأموال وقطع الأراضي لضمان ولائهم. 

رغم ذلك، يميل التوجه الشبابي في المملكة بالابتعاد عن التوجه القبلي والتقرب أكثر من الدولة ومؤسساتها. فلا يمكن إهمال تأثير المبتعثين للدراسة في الخارج، والدور المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في ظل التوجه الجديد لولي العهد محمد بن سلمان، والذي يبتعد في اكتساب الشرعية عن النظام الديني والقبلي التقليدي باعتباره ولي الأمر، واستبدال هذه المنظومة بمنظومة وعود اقتصادية مدعومة لخطط تغيير اجتماعي.  لذا من غير المستغرب أن تشهد المملكة انحسارا في الدور القبلي لصالح دور الدولة في السنوات المقبلة، خاصة في حال تولي ولي العهد للحكم خلف أبيه الملك سلمان.

الخلاصة

رغم التأثير الكبير للقبيلة في كل من السعودية والإمارات، إلا أننا نلحظ اختلافا في التعاطي مع القبيلة في كلا الدولتين. فالإمارات تميل بشكل مباشر لإخراج الأفراد من حاضنة القبيلة، بينما تعمل السعودية على ذلك الهدف بطريقة أبطأ وأقل وضوحا، بل أنها تستخدم العلاقات القبيلة في سياستها الخارجية المتعلقة بالملفات الإقليمية كما هو الحال في العراق واليمن. 

بصورة عامة، لعبت التنمية الاقتصادية والموارد النفطية إلى تعزيز دور الدولة وميل الأفراد نحو الاهتمام بأنفسهم بدل بذل الولاء للقبيلة كما كان الحال لقرون طويلة. أدت التنمية التي وفرتها الحكومة في كلا البلدين، إلى فرض نظامها على المجتمع بطريقة تلقائية. كما أدت وسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي لتغيير كبير في نظرة الأفراد تجاه علاقاتهم القبلية والعائلية. 

مما لا شك فيه، أن الولاء والعلاقات الاجتماعية تشهد تغيرا كبيرا نحو النزعة الفردية والميل نحو الدولة، لا يعني هذا بالضرورة انتهاء دور القبيلة، فلا تزال القبيلة مهما اجتماعيا مهما في كلا البلدين، لكن دورها يميل للانحسار لصالح الدولة والهوية الوطنية، مدفوعا بالعوامل الطبيعية أحيانا، أو بحملات الدولة لدعم الهوية الوطنية تارة أخرى.

باحث وكاتب مصري، بكالوريوس الهندسة الميكانيكية