نحو دولة الحقوق والمؤسسات.. آخر محاولات الإصلاح قبل الطوفان

نحو دولة الحقوق والمؤسسات.. آخر محاولات الإصلاح قبل الطوفان
مقدمة
وليد الشهراني
تعتبر الوثيقة التي قدمها عدد من الإصلاحيين السعوديين في 23 فبراير 2011 للملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، أحد أهم الوثائق السياسية إن لم تكن الأهم في المملكة في القرن الحادي والعشرين. وذلك لدلالتها الكبيرة، والمضامين التي حوتها، والفترة التي ظهرت فيها والموقعين عليها.
والوثيقة، وإن لم يتم تطبيقها -حصل العكس منها ودخل الكثير من الموقعين عليها في السجن-، إلا أنها تعطي مؤشرا على حركة المجتمع السعودي، في الفترة التي حصلت فيها ثورات الربيع العربي، وطبيعة الجهات الفاعلة في تلك الفترة التي شهدت نوعا من الحراك والحرية والقابلية على الحركة.
إضافة لذلك، جمعت الوثيقة تقريبا أغلب النخب السعودية، إذ كان فيها مجموعة من الإسلاميين والليبراليين والكتاب والصحفيين والشباب والشيوخ وغيرهم من مختلف شرائح المجتمع، وهو ما أكسبها قيمة مضاعفة.
المحتوى
بنود الوثيقة
نصت الوثيقة على سلسلة من المقترحات التي من شأنها تغيير نظام الحكم السعودي بالكامل، مع الحفاظ على صيغته الملكية الحالية. إذ طالبت العريضة التي قدمها مجموعة من الإصلاحيين بينهم سلمان العودة وعبد الله الحمد، وشارك فيها ووقع عليها 7000 من النخب في المملكة، بالتحول إلى نظام الملكية الدستورية، التي تفضي أن يبقى الملك في منصبه الحالي، على أن ينقل كافة السلطات التنفيذية والتشريعية إلى مؤسسات تشريعية وتنفيذية فاعلة منتخبة من الشعب.
بالمجمل، نصت الوثيقة على عدة بنود:
– أن يكون مجلس الشورى منتخبا بكامل أعضائه، وأن تكون له الصلاحية الكاملة في سنّ الأنظمة والرقابة على الجهات التنفيذية بما في ذلك الرقابة على المال العام، وله حق مساءلة رئيس الوزراء ووزرائه.
– فصل رئاسة الوزراء عن الملك على أن يحظى رئيس مجلس الوزراء ووزارته بتزكية الملك وبثقة مجلس الشورى.
– العمل على إصلاح القضاء وتطويره ومنحه الاستقلالية التامة، وزيادة عدد القضاة بما يتناسب مع ارتفاع عدد السكان وما يترتب على ذلك من كثرة القضايا.
– محاربةُ الفساد المالي والإداري بكل صرامة ومنع استغلال النفوذ أيا كان مصدره ومقاومة الإثراء غير المشروع وتفعيل هيئة مكافحة الفساد لتقوم بواجبها في الكشف عن الفساد ومساءلة من يقع منه ذلك وإحالته إلى القضاء.
– الإسراع بحل مشكلات الشباب ووضع الحلول الجذرية للقضاء على البطالة وتوفير المساكن لتتحقق لهم بذلك الحياة الكريمة.
– تشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وإزالة كافة العوائق التنظيمية التي تحول دون قيامها.
– إطلاق حرية التعبير وفتح باب المشاركة العامة وإبداء الرأي، وتعديل أنظمة المطبوعات ولوائح النشر.
– المبادرة إلى الإفراج عن مساجين الرأي وعن كل من انتهت محكوميته أو لم يصدر بحقه حكم قضائي دون تأخير. وتفعيل ” الأنظمة العدلية” بما فيها ” نظام الإجراءات الجزائية” والتزام الأجهزة الأمنية و”المباحث العامة” بتلك الأنظمة في الإيقاف والتحقيق والسجن والمحاكمة وتمكين السجناء من اختيار محامين للدفاع عنهم وتيسير الاتصال بهم ومحاكمتهم محاكمة علنية حسب ما نصت عليه تلك الأنظمة.
تحمل الوثيقة عدة دلالات أهمها:
- تزامن الوثيقة مع فترة الربيع العربي، وخلالها غاب الملك عبد الله بن عبد العزيز لـ3 شهور من أجل العلاج خارج المملكة، حيث عاد ليجد ثورتين قلبتا الأوضاع في العالم العربي: الثورة التونسية والثورة المصرية، والاخيرة بالذات كانت الأكثر خطورة على الحكومات الخليجية.
يُمكن ملاحظة الطابع التي سارت عليه الأمور بوضوح، كانت الاجواء شعبيا ونخبويا تشيرلتحرك في الشارع على غرار ما حصل في بلدان الربيع العربي، وهو أمر ليس بجديد في المملكة فقد سبقه حوادث مماثلة -وإن كانت أقل حدة- خلال التسعينات. لكن هذا لم يحصل، وهو مؤشر على الرغبة الكبيرة للنخب السعودية بالتغيير التدريجي، ولعل مرده معرفة تلك النخب بحقيقة اختلاف المجتمع السعودي وطبيعة الحياة في المملكة، والتي ظلت مغلقة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، ولم يكن فيها نوع من الانفتاح الثقافي الذي كان موجودا في تونس على سبيل المثال، كما لم تتوفر الثقافة السياسية التي يحملها الشباب المصري في الشباب السعودي. ولأجل ذلك كله، جاء الإعلان بعريضة طلب موقعوها أن يكون الملك هو الضامن لها والداعم، بحيث يتحقق التغيير نزولا وليس صعودا.
- بالعطف على النقطة السابقة، يشكل هذا النوع من التحول، تفهما كبيرا للطبيعة الخليجية في أن هذا هو “ما يعرفه” القوم في الإدارة السياسية للبلاد.
فالطبيعة المجتمعية قبلية بحتة، والمجتمع يفضل رأسا واحدا مسؤولا في الحكم، حتى لو كان صوريا في أرض الواقع، وهكذا وقع الاختيار على الملكية الدستورية التي تنتهجها الكثير من البلدان أبرزها بريطانيا والسويد وكندا، بطبيعتها التي تحفظ قيمة الملك ومكانته، وربما تعطيه بعض الصلاحيات في مجالات وحالات معينة، وهو أمر من شأنه الابتعاد عن التصادم مع الملكية ومن يؤازرها.
- وجود هذا العدد الكبير المتنوع من الإصلاحيين في الوثيقة، يعطي مؤشرا على نضج كبير يحمله الموقعون. فلم تكن كل جهة او شخصية تعمل لوحدها، إنما اصطف الجميع خلف مطالب واضحة قابلة للقياس، لم تكن بدعا من السياسة والإصلاح، وهو ما يدحض الدعاية الملازمة دائما بأن الشعوب العربية -والخليجية على وجه الخصوص- ليست مؤهلة لمثل هذا الانتقال الديمقراطي، وأن الديمقراطية نفسها لا تصلح لهذه المنطقة من العالم.
- ربما يكون المؤشر الأكثر أهمية، دور الإصلاحيين الإسلاميين في الوثيقة. وفي هذا المجال تبرز نقطتان:
أ. تعكس الوثيقة تطورا كبيرا ونضجا في الفكر الإسلامي في السعودية، ولولا أن كبار منظمي هذه العريض معروفون بتوجهاتهم الإسلامية، لكان من السهولة القول أن هذه وثيقة ليبرالية مدنية بحتة. وهي بذات الوقت، تفند النظرة السائدة عن المجتمع السعودي، بأنه مجتمع خاضع خانع ينقاد لرأي هذا الحاكم أو ذاك، وإنما فيه نضج ووعي يواكب ما يحصل حوله من تطورات ويتفاعل معها.
ب. تمثل الوثيقة خروجا كاملا للتيار الإسلامي من عباءة الدولة. فلطالما كان جيل الصحوة يسير برعاية الدولة، خاصة منذ العام 2005، الذي شهد تصالحا ما بين التيار الإسلامي المحافظ، والدولة التي اعتبرتهم جناحا آخر تطير به مع المال.
ج. الوثيقة نفسها، تصلح أن تكون خارطة طريق سياسية للانتقال الديمقراطي والاقتصادي، لما فيها من خطوط عامة يمكن تطويرها لاحقا لتكون خططا خمسية او عشرية، يمكن لو تم تنفيذها بكفاءة جنبا إلى جنب مع الموارد المتاحة في البلاد، أن تحقق نقلة نوعية في البلاد خلال فترة وجيزة، تمام مع حصل مع الكثير من الدول في المنطقة والعالم.
- الدور الذي لعبته الشخصيات المشاركة وهم دعاة في كثير منهم، كسر النمطية المحيطة بهؤلاء على أنهم علماء لا يجيدون سوى تصدير المواعظ والحكم الدافئة التي لا يُبنى عليها عمل، فقد صدّر الإصلاحيون صورة أخرى غير مألوفة عن حركيين في الصف الأول، مستعدين للتضحية والوقوف بوجه بالملك، رغم ما يعنيه ذلك من تكلفة باهظة لا يزال الكثير منهم يدفعونها إلى الآن، بدءا من الدكتور سلمان العودة، وصولا إلى الشهيد عبد الله الحامد، مرورا بالكثير من الدعاة المعتقلين أو المغتربين في الخارج، ممن منعوا من العودة إليها.
- من الناحية الاقتصادية، تبرز الوثيقة في كونها استقراء صحيح لضرورة إجراء تحول اقتصادي، يٌخرج الاقتصاد من عباءة الحكومة المرتكزة أصلا على قرارات الرجل الواحد، والتي تجعل البلد مرهونا بالحاكم. إن التغييرات السياسية تكون مصحوبة بتغييرات اقتصادية تبعا لها، لكن التغييرات الاقتصادية العميقة في الخروج من عباءة النفط، قد تجر معها أيضا إلى تغييرات سياسية جذرية بدورها.
- جاءت الوثيقة بعد فترة طويلة من الركود والسكون السياسي، لم تشهد حراكا حقيقا، وهو أمر له دلالة استشرافية لما يمكن أن يحصل عليه الحال في المستقبل، خاصة وأن الشرق الأوسط مقبل على تغييرات جيوسياسية كبيرة تتزامن مع تخفيف الولايات المتحدة أعبائها في المنطقة، واحتمالية دخول قوى أخرى مثل الصين، وتحركات لقوى موجودة أصلا على الأرض مثل إيران ووكلائها حول السعودية. كل هذا الظروف، قد تكون مدعاة لحراك آخر يتخطى مرحلة الإصلاح، وينتقل لمرحلة التغيير الحقيقي.
- تبين الوثيقة، أن اي خطوة إصلاح حقيقية أو محاولة له، لا بد أن تأتي من النخب المجتمعية، ثم تلحق الجماهير بمثل هذا الحراك، فهذه النخب هي الأقدر على التجمع وإيجاد الحلول والمبادرة، من الجماهير غير المنظمة حتى لو توفرت الإرادة لديها.
الخلاصة
رغم أن مطالب هذه الوثيقة لم يتم تنفيذها، ولم يتحقق منها شيء ملموس في الواقع، ومع حقيقة أن الملك لم يستجب في النهاية، واكتفى بحزمة من الإجراءات الإصلاحية والتنموية بقيمة 35 مليار دولار من بينها زيادة الأجور في القطاع العام، وتثبيت عقود المعينين بأجور يومية وغيرها من المصاريف، وهي إجراءات لا يمكن اعتبارها أكثر من كونها رشوة يدفعها الحاكم لإسكات الشعب مؤقتا، إلى أن يتمكن من السيطرة مجددا، لاستعادة هذه الأموال بطريقة أخرى -بشكل ضرائب أو رفع دعم- وهو ما حصل لاحقا في عهد الملك سلمان، رغم كل ذلك.. لكن هذه الوثيقة وما رافقها من ظروف وأحداث تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الإصلاح أمر ممكن في المملكة، وأن الحكام الواحد، مهما بلغت قوته وسيطرته، سيظل عرضة للكسر والخلع.. حتى ولو بظروف خارجية وتغييرات إقليمية.